
فادي أبو ديب
تظهر الأنثى المقدسة أو السرّية والسرّانية كشخصيةٍ بارزةٍ في كتاباتٍ باكرةٍ لجبران خليل جبران. وفي مجموعةٍ باكرةٍ هي “دمعة وابتسامة” التي نُشِرت عام 1914 بمبادرةٍ من الشاعر السوريّ نسيب عريضة صديق جبران (انظر الشعلة الزرقاء، 80)، كمجموعةٍ مؤلفةٍ من مقالاتٍ ونصوصٍ قصيرةٍ نشرت في الصُّحُف قبل ذلك الوقت بعدة سنوات، نلمح هذه الشخصية/ الشخصيات الغامضة والسحرية في عدد من النصوص. ولعلّ أول ظهورٍ لها هناك هو تجسّدها كملاك موتٍ يتراءى لشاعرٍ فقيرٍ يحتضر؛ ففي نص “موت الشاعر حياته”، تتبدّى تلك المرأة طيفاً يحلّ بجانب فراش الشاعر الذي ينازع الموت، وهي “ذات جمالٍ غير بشريّ ترتدي ثوباً ناصعاً كالثلج وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبت الحقول العلوية (ص 50). [1]
وهذا الظهور الأنثويّ ليس وليد المخيّلة الجبرانية الخصبة فحسب، فنحن نجد أمثال هذا التصوير في اختبارات باطنية أسرّ بها إلى بطون الكتب والقصائد العديد من الفلاسفة والمتصوّفة والشعراء. وكما سنكتشف قريباً، فإنّ هذ الأنثى دائماً ما تتقدّم نحو الرّائي لكي تلامس جسده لمساتٍ ذات معنى. في المشهد السابق تحضر هذه المرأة الفوق أرضية إلى جانب الشاعر المحتضِر، ثم تدنو منه وتعانقه وتغمض له عينيه ثم تقبّله على شفتيه، وكأنّها قادمة لإعداد المحتضر الوحيد لرحلته الأبدية واستلام روحه والعودة بها إلى الملكوت الأعلى، فهي تهدئ من روعه وتؤنس وحشة وحدته لا بل وتترك على شفتيه ابتسامة اكتفاء (ص 50). هذا الملاك آتٍ خصّيصاً لكي يُشبع جوع هذا الإنسان الذي ورغم حساسيته الفائقة للحياة وإدراكه لجماليتها وعمقها حُرِم من الأنيس والرفيق والمحبّ الذي يملأ نفسه بيقين المحبة أو على الأقل يجالسه على فراش الموت. ويكن هنا أن نستحضر ببداهةٍ أمام هذا الظهور الأنثويّ السماويّ الرؤيةَ الخلاصيةَ للعذراء مريم التي يصلّي إليها المتعبّدون: “صلّي لأجلنا… الآن وفي ساعة موتنا”، فالمرأة الظاهرة أتت بناءً على صلاة الشاعر الذي يحتضر والذي أخذ بالدّعاء لمنيّته أن تأتي إليه. والمرأة السماوية في هذا المشهد تأتي بناءً على هذه الدعوة وهي محاطةٌ بكامل جلالها فوق البشري لتأخذ الشّاعر إلى حقولها السماوية، موطن أزهارها التي توزّعها على من تجدهم أهلاً لتنسّم عبيرها العجيب. إنّها “الأمّ الكلية” التي تلبّي طلب ابنها الذي حُرِم من قبلة الأم وعناق الأخت ولثمة الحبيبة فأتت إليه أمّه السماوية لتمنحه كلّ اشتياقاته ثم تأخذه معها. إنّها “الأم” التي لطالما أجابت جبران من غير ألفاظ، فتمنحه الأسرار وتكللها بصمتٍ عميقٍ كما أسرّ مرّة في إحدى رسائله إلى الكاتبة ميّ زيادة (الشعلة الزرقاء، 65). ومن اللافت أنّ هذا النصّ يلقي الضوء لا على وحدة الشاعر وغربته فحسب، بل على فقره وموته جوعاً في “مدينة الأحياء الأغنياء” (ص 48)، فالنبذ الذي يتعرّض إليه الشاعر في حياته، والبغضاء التي توجَّه إليه ممن يسيئون فهمه، ليسا إلّا وجهاً آخرَ للازدراء والإهمال اللذين يواجه بهما الأغنياءُ الفقراءَ.
وجبران يسير في وصفه للشاعر على خطى الرومانسيين، فهو يُفرِد له مكانةً خاصةً وعاليةً في سلّم الوجود، فالشاعر ليس هو المبدع والخلّاق والحسّاس فحسب، وليس الرائي فقط، بل هو أيضاً المتروك وحيداً في عالم قاسٍ يهمله ويحرمه أبسط رغباته في المحبة ومعاينة الجمال ومرافقته كما يحبّ. وهذه نظرةٌ يبدو أنّ بعض معاصري جبران قد وجدوها غريبةً و”إفرنجيةً” بعض الشيء، كون الشاعر في الموروث العربي والمشرقي وفي الزمن الحديث والمعاصر مُحتفىً به كبطلٍ جماهيريّ حاضرٍ في جميع المناسبات العامة والخاصة. أو على الأقل هذا ما يلمّح إليه جبران في مسرحيته الصغيرة “الصلبان” في كتاب “العواصف” (ص 201- 221).
كما أنّ شخصية الشاعر الفريدة والمتوحّدة، رغبةً أو قسراً، تشغل حيّزاً مهماً من فكر جبران، يتجلّى في عددٍ من النصوص والعبارات المأثورة المكرّسة للحديث عنه (دمعة وابتسامة، ص 166 وص 214؛ العواصف، ص 250، على سبيل المثال لا الحصر). فالشاعر غريبٌ يسكن هذا العالم رغم أنّه لا ينتمي إليه، ولذلك تأتيه الرسائل من عالمٍ لدُنيّ لا يعرفه الآخرون، فلا غرابة إذن أن تكون الأنثى السّرّية هي رسولة ذلك العالم بما تعبّر عنه من جمالٍ خلّابٍ ومن رمزيةٍ عذراويةٍ وأموميةٍ في الوقت عينه.
وفي رؤيا أخرى (ص 71-74)، في نصّ “رؤيا” الثاني في الكتاب، تظهر الأنثى كحورية، وهي الآن تجسّد “ميلبومين” ابنة الإله جوبيتر وربّة الروايات المُحزنة. وعلى عكس الظهور السابق بجانب الشاعر المحتضر، لا تأتي هذه الحوريّة لتعزّي الرائي وتمنحه السّلوى بل لتريه ما في هذا العالم من قباحاتٍ وأضدادٍ تلعب بالإنسان وتتقاذفه يُمنةً ويسرةً، صعوداً وانحداراً؛ فقد تشرذمت نفس الإنسان بين المحبة والبغضاء، وعانت تحت وطأة المدنيّة التي تكبّله وتقيّده (وهذه الأخيرة موضوعة تتكرّر عند جبران أسوةً ببعض معاصريه من الكتّاب كميخائيل نعيمة وأمين الريحاني مثلاً)؛ وها هم رجال الدين والأغنياء واللصوص يستأثرون بهذه النفس فيخطفوها ويذلّوها ويبعدوها عن أصلها الربّانيّ. وقد شهد الرائي أيضاً وهو يقف أمام الحوريّة مآسي الابتذال والتسلّط والظلم وجهل الرجل بالمرأة وشرور المال وسيادة الوهم على الدين؛ لقد رأى كل معاناة هذا العالم فصرخ من فرط الألم والتشويش فأجابته “ابنة الآلهة”: “هذه طريق النفس المفروشة شوكاً وقطرباً. هذا ظلّ الإنسان.” (ص 74)
إنّه إذن الطريق الضيّق الوعر الذي يسير فيه الإنسان، والذي سيوصله إلى هدفه الكونيّ الأخير. إنّ جبران هنا لا يبعث برسالة قنوطٍ ويأسٍ، فهو يؤمن بمسيرة التاريخ التطوّريّة، المنتهية لا محالة إلى أحضان الألوهة والاتحاد الكوني بين جميع العناصر والمتضادّات (ص 213)، ولذلك فإنّ ابنة الآلهة لا تصمت عن كلامها المباح قبل أن تؤكد للصارخ المتألّم أنّه يقيناً “هذا هو الليل وسيجيء الصباح.” وهي كنظيرتها المجلَّلة بالبياض في الرؤيا السابقة تبادر أيضاً إلى لمس الرائي مرّتين في هذا اللقاء العجيب، مرّةً في بداية ظهورها فتضع يديها على عينيه لينفصل عن جسده ويرى حقيقة العالم الراهن، وكأنّ العيون البشرية المحسوسة نقابٌ يلثّم العالم ولا يكشف عنه أو كأنّ البصر والرؤية يحجبان البصيرة والرؤيا، ومرّة أخرى تأتي اللمسة على العينين أيضاً لكي يعود الإنسان من عالم الجواهر إلى عالم المظاهر وتعود النفس الرائية إلى الجسد الأعمى. ولكن هاتين اللمستين وما تلاهما من دخول إلى عالم الغيب وخروج منه لم تكونا مجرّد تجربة عابرة أو نعمة استثنائية بل كانتا بوابة الخروج من الحيرة والدخول إلى عوالم الأمل والرجاء؛ فالرائي الذي كان يسير خلف شبابه في بداية النصّ، والذي اقتيد في مسيرته تلك إلى حقول الحيرة، يجد نفسه بعد انقضاء الرؤيا سائراً مع شبابه على مهل، والأمل الآن هو الذي يجري أمامهما. ويبدو أنّ جبران يؤكّد في رؤياه على أنّ الحيرة شرط أساسيّ من شروط المعرفة [انظر أيضاً الشعلة الزرقاء، 66]، فهو يمرِّر هذه العبارة في بداية نصّه (ص 71)، ويُبرِز بوضوحٍ حتمية هذه النتيجة في النهاية، فاختبار كلّ هذه الأضداد والمتضادّات واكتناه حالة العالم الرّاهنة كانا أمرين ضرورِيَّيْن لتوليد الأمل الخصب الذي يجري الآن أمام عيني الرائي من دون تردّد. وجبران في كتابه “العواصف” يعبِّر عن هذا التصوّر الفلسفي للعالم بصراحةٍ ووضوحٍ:
“أنا من القائلين بسنّة النشوء والإرتقاء [الخطأ في الهمزة من المصدر]، وفي عرفي أن هذه السنّة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنويّة بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنتقل بالأديان والحكومات من الحسن إلى الأحسن انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب. فلا رجوع إلى الوراء إلّا في الظاهر ولا انحطاط إلّا في السطحي.
ولسنّة الارتقاء سبل متشعّبة يتفرّع بعضها من بعض ولكنها متلازمة الأصول، ومظاهرها قاسيةٌ ظالمةٌ مظلمةٌ تنكرها الأفكار المحدودة وتتمرّد عليها القلوب الضعيفة، أمّا خفاياها فعادلةٌ منيرةٌ، متمسكةٌ بحقٍّ أسمى من حقوق الأفراد، محدقةٌ إلى غرض أعلى من مرام الجماعة، مصغيةٌ إلى صوتٍ يغمر بهوله وعذوبته تنهدات المنكوبين وغصّات المتوجّعين.
حولي بكل مكان أقزام يرون عن بعد أشباح الجبابرة متناضلين ويسمعون في المنام صدى تهاليلهم فيضجون كالضفادع قائلين: قد رجع العالم إلى فطرته الوضعيّة. فما بنته الأجيال بالعلم والفن قد هدمه الإنسان الوحشي بالطمع والأنانية، فحالنا اليوم حال سكّان الكهوف ولا يميزنا عنهم سوى آلاتٍ نبتدعها للدمار وحيلٍ نستخدمها للهلاك!
هذا ما يقوله هؤلاء الذين يقيسون ضمير العالم بمقياس ضمائرهم، ويحلّلون مراد الوجود بالفكرة القصيرة التي يستخدمونها لحفظ وجودهم الفردي. فكأن الشمس لم تكن إلّا لتدفئتهم، وكأن البحر لم يوحد إلّا لغسل أرجلهم.” (العواصف، 140-41)
كانت الحورية ميلبومين إذن سيّدة الحكمة والفم الهرمسيّ الذي يخبر ينطق بأسرار التاريخ ومعاني التحوّلات وليست فقط ربة الروايات المحزنة، وهي تمنح الرائي أملاً يجعله يُبصِر جمال العالم في جوهره ومآله ومستَقَرّه الأبديّ. الحكمة إذن تتجلّى في الجمال، والعكس بالعكس كما يقول اللاهوتيّ الروسيّ بافل فلورنسكي، وكما يؤكّد على ذلك مواطنه نيكولاي برديائيف نقلاً عن الثيوصوفيّ الألمانيّ ياكوب بوهمه. فالحكمة هي الجمال الحقيقي والجمال الحقيقي هو أيضاً حالة العذراوية، أمّا هذه الصفة الأخيرة فهي حالة اتزان الأضداد ونهاية الصراع وانمحاء القبح والزَّلل. وجبران ليس بعيداً عن هذه المفاهيم الثيوصوفية التي وجدت لنفسها مع شخصياتٍ عديدةٍ أهمها هيلينا بلافاتسكي شعبيةً كبيرةً في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين.
وهكذا نرى جبران يخرج مجدداً مع حوريته في نصّه “أمام عرش الجمال” (ص 88-90)، كما نجده وجهاً لوجه أمام الحكمة نفسها في “زيارة الحكمة” (ص 91-93).
وفي “أمام عرش الجمال” يبدو من الواضح أنّ ظهور الحوريّة يتلازم مع الخروج من المدينة نحو البرّيّة، فالشخصية المترائية الآن هي “ابنة الأحراج” (ص 88). وهذه المرّة لا تظهر الأنثى السرّيّة بثوبها الناصع البياض، كظهورها الأموميّ إلى جانب الشاعر المحتضر وظهورها المشابه في بعض الرؤى الدينية كما في سيرة القديسة هيلدغارد فون بينغن على سبيل المثال، بل تظهر الآن شبه عاريةٍ لتمثّل الطبيعة البِكر في تجليها وانكشافها لعين الشاعر السابح في فضاء الخيال المعتزل قيود المادة. وجبران هنا لا يترك القارئ يستنتج وحده هوية الشخص المتجلّي بل يميط اللثام عن هذه الهوية على لسان الحورية التي تسرّ إليه بأنّها “رمز الطبيعة… العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا لها مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجُبيل.” (ص 89). وهي هنا الآن لكي تسلِّم إليه رسالة الجمال وتجلو أمام رائيها حقيقة الإنسان نفسه هذه المرة- على غرار ابنة جوبيتر التي ظهرت لتكشف حقيقة العالم- وبالتالي حقيقة الرائي نفسه الذي يقف موقف ريلكه المشدوه والخائف أمام الجمال، فيهمس: “إنّ الجمال قوةٌ مخيفةٌ رهيبةٌ”، كما عبّر ريلكه بشكل مماثل عن أنّ “الجمال ليس إلّا بداية الرّعب”.
وهكذا تنطق الحورية بحقيقة أبناء آدم وحواء: “أنتم البشر تخافون كل شيء حتى ذواتكم. تخافون السماء وهي منبع الأمن. تخافون الطبيعة وهي مرقد الراحة، وتخافون إله الآلهة وتعزون إليه الحقد والغضب وهو إن لم يكن محبّة ورحمة لم يكن شيئاً” (ص 89). ومجدَّداً كما في الرؤى السابقة، تتقدّم الحوريّة واضعةً “يدها المعطّرة” على عيني الرّائي، ثم تتوارى بعد أن تترك تميمتها على لسانه: “إنّ الجمال هو ما تراه وتودّ أن تعطي لا أن تأخذ” (ص 90).
فالجمال إذن وثيق الصلة بالحبّ الذي هو جوهر العطاء، لا بل هو تجلّيه وبيانه ورفيق دربه وتوأمه اللصيق. ومن هذين الزوجين، الجمال والحبّ، تولَد الحكمة (ص 133-134)؛ فهذا الثالوث الأقدس ليس إلّا ثلاثة أقانيم يجلو كلّ منها وجه رفيقيه الآخرين، ويكشف واحدها سرّ رفيقيه اللذين يشكّل كلّ منهما صنواً له في الجوهر والمشيئة. ولذلك فإنّ أشخاص هذا الثالوث يظهرون تباعاً في تأمّلات جبران؛ فها هي الحكمة تزور رائيها بعد أن تغادره حوريّة الجمال- ابنة الأحراج. ومشهد زيارتها يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ زيارة “الفلسفة” لبوئثيوس في اللوحة الشهيرة التي رسمها ماتيّا ابْرِتي؛ فالحكمة تتقدم من مختارِها وهو على مضجعه، فتنظر إليه بحنانٍ وتكفكف دمعه وكأنّها تعزّيه كما أتت فيلوصوفيا لتعزّي بوئثيوس في كمده العظيم (انظر بوئثيوس، عزاء الفلسفة)، قبل أن تجسّ صدره لتدرك علّته (بوئثيوس، 54).
والحقيقة إنّ الظهورات الأنثوية في هذا العمل الجبراني، “دمعة وابتسامة”، تتشارك كلها تقريباً النمط عينه الذي يظهر في كتاب “عزاء الفلسفة”، من حيث الطبيعة الفوق بشرية للأنثى المترائية واقترابها من البشريّ الرائي والتلامس معه جسدياً لمساعدته إما على رؤية ما خفي أو لتعزيته في ضرّائه وألمه. وجبران في هذا الموقف كأيّوب أيضاً، يسائل الله عن كُنه الأشياء وفحوى الظواهر ومآل الأحداث وتتابعها المحيّر. وفي هذه الرؤيا لا تتورّع الحكمة عن توبيخ المتسائل بلطفٍ ودماثةٍ واصفةً إياه بالحماقة. أما لماذا الحماقة، فهي تفسّر ذلك مخاطبةً إياه قائلة: “أنت تريد أيها البشري أن ترى هذا العالم بعين إله وتريد أن تفقه مكنونات العالم الآتي لفكرةٍ بشريةٍ، وهذا منتهى الحماقة.” (ص 92) وهي لذلك تدعوه إلى ترك تفسير معاني الحياة للحياة واعتناق الدهشة والفرح بشعاع الحياة أينما وجده. وكأننا في هذا الموقف التوبيخي نقرأ كلمات الظهور الإلهي الذي يواجه أيّوب في نهاية ذلك السفر الفريد والغريب من أسفار الحكمة في العهد القديم. فغرابة هذا السفر تتجلّى في عدة عناصر، لعلّ أكثرها غرابة هي أنّ الصوت الإلهي الذي يقتحم المشهد في النهاية يوبّخ أصدقاء أيوب الذين لم يقوموا في الواقع بأكثر من ترداد المنطق الأخلاقي الذي تشترك فيه التوراة مع كثير من التعاليم الدينية القديمة والمعاصرة، وهو مبدأ الكارما (في نسخته الشعبية على الأقل). والله في سفر أيوب “يرفض” أن يحكم البشر على الأسباب الماورائية للأحداث الشخصية أو الطبيعية ويقيّدوا الخالق بمنطقهم الموروث، وهو لذلك يردّ على أسئلة أيوب بعدد من الأسئلة المتلاحقة المنطوية على سخريةٍ لاذعةٍ، أسئلةٍ يمكن أن ننظر إليها بوصفها أسئلةً بلاغيةً كون الإجابة عنها مستحيلة، أو في الحقيقة غير مهمّة:
“من هذا الذي يُظلِم القضاء بكلامٍ بلا معرفةٍ؟ اشدد الآن حقويكَ كرجلٍ، فإنّي أسألك فتعلّمني. أين كنتَ حين أسَّستُ الأرضَ؟ أحبرِ إن كان عندكَ فهمٌ. مَن وضع قياسها؟ لأنك تعلم!…ومَن حَجَزَ البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرّحم…؟… هل في أيّامكَ أمرتُ الصُّبحَ؟… هل انتهيتَ إلى ينابيع البحرِ، أو في مقصورة الغمر تمشَّيتَ؟ هل انكشفت لكَ أبواب الموت، أو عاينتَ أبواب ظلّ الموتِ؟… أين الطريق إلى حيث يسكن النور؟ والظلمة أين مقامها، حتى تأخذها إلى تخومها وتعرف سبيل بيتها؟ تعلم، لأنّك حينئذٍ كنتَ قد وُلِدتَ، وعدد أيّامكَ كثيرٌ!” (أيوب 38: 2- 5أ وب، 8، 12أ، 16-17، 19-21)
ولكن الأنثى الظاهرة لجبران ليست إلهةً مفارقةً تماماً لعالم الحسّ كإله أيوب، رغم أنّ ظهورها كظهوره لا يُختَتّم من دون أثرٍ متروكٍ في عالم الحسّ؛ فالله لا يلمس جسد أيوب ولكنه يمنحه أولاداً وبناتٍ عوضاً عن الرّاحلين ويردّ له الثروة المادية التي ضاعت مضاعفةً. أما عند جبران تتقدّم الحكمة الظاهرة كعادة أخواتها السابقات، أو ربما تجلياتها السابقة، لتضع يدها على جبهته الملتهبة وتدعوه إلى متابعة سيره نحو الأمام (ص 93). وهكذا تأتي التعزية بعد التوبيخ اللطيف. ولكن الحكمة، إذ لا تترك رائيها حائراً، لا تعيده أيضاً إلى حالته الأولى، بل تمنحه رسالةً تعينه على إكمال مسيرته لأنّ “الأمام هو الكمال”. وهنا تظهر مجدداً العقيدة التاريخية التقدمية التي يعتنقها جبران. ونحن نرى هذه الصورة في مناسباتٍ سابقةٍ حين تتبدّد الرؤيا ويبقى الرائي مع خلاصةٍ نهائيةٍ جديدةٍ تعينه على الشدائد وتقوّي معرفته وتوسِّع مداركه لمواجهة أسئلته وحيرته والعالم من حوله.
هذا الكيان الأنثوي السرّانيّ المُترائي يعود مرةً أخرى للبروز في “دمعة وابتسامة”. وهذه المرّة المرأة الظاهرة هي “ملكة الخيال”، التي لا تتجسّد أمامه إلى حين يبلغ “خرائب تدمر” (ص 119). إنّها كالحكمة المقدسة، صوفيا، التي ظهرت للمفكّر الروسيّ فلاديمير سولوفيوف في وقت ما بين عامي 1875 و1876 بعد أن ’أمَرَته‘ أن يرتحل من لندن إلى الصحراء المصرية لتظهر له للمرة الأخيرة ظهورها الحاسم. وإذا كانت الأنثى السماوية لا تظهر إلّا قرب المضاجع أو في البراري فإنّ عنصر الحضارات القديمة وأطلالها وخِرّبها يُضاف إلى مواضع الظهور البعيدة عن الحياة المدينية أو المُعتزلة لها على الأقل. وفي هذا النصّ تظهر رغبة جبران في الاتصال بغوامض وأسرار العلوم القديمة، هو المولَّه بشكل خاص بأسرار الحضارة الكلدانية (البابلية) كما يُسِرّ بذلك إلى محبوبته الأديبة ميّ زيادة في إحدى رسائله إليها (الشعلة الزرقاء، 49-50). وظهور “ملكة الخيال” لم يكن مفاجئاً هذه المرّة بل جاء مسبوقاً بمناخات اقتحمت سكينة الرائي وأخذت بلبّه وخلبت عقله، جاعلةً إيّاه يحسّ بأنّ الأرض والفضاء يميدان من تحته وفوق رأسه، قبل أن يرى جوقةً من العذارى اللاتي يترنّمن بترانيم الأحلام والفتنة ثم يصطففن كما في بلاط الملوك تمهيداً لدخول مليكتهم المتهادية نحو عرشها. والرائي في هذا المشهد يُبصِر في الحقيقة طقساً ملكياً متكاملاً، أو قل قدّاساً يستحضر الروح الإلهية في أجواء سحريّةٍ ومناميّةٍ خلّابةٍ. وهكذا تُعدّ روح الرائي إلى هذا اللقاء الملكيّ لتبادر هذه “الملكة” بمخاطبته وتكشف له عن عالمها وجوهر حقيقتها الذي يكشفه جبران على لسان ملكيته بوصفه عالم أو “مدينة” الخيال التي تبدو كمدينة الله في الأمثال الإنجيلية، لا يدخلها إلّا من لبس ثياب العُرس (إنجيل متى، الإصحاح 22). هذه المدينة هي في الحقيقة جنّةٌ لا يراها إلّا المحبّون وذوو الأحلام (ص 121).
هذه الملكة السرّانيّة تكشف لرائيها إذن ماهية عالم الخيال، وتُرسِل إنذاراً لبني البشر مع الأُنسيّ الذي اختصّته لكي يلتفتوا إلى السيف ذي الحدّين الذي يمسكونه؛ فالخيال قد يُستَخدَم للمعرفة وإحراز السرور كما يمكن أن يصير وعاءً للجهل والأسى والشرور. هنا تتبدّى إذن الملامح الأولى للعقيدة الجبرانية في المخيّلة؛ فهي “مجازٌ يعانق الحقيقة، وحقيقة تبيّن وحدانية النفس، وشاهدٌ يزكي أعمال الآلهة” (ص 121). وكعادة هذه المرأة السماوية ذات الوجود المتعدّدة فهي تبادر إلى لمس رائيها بعد أن تجتذبه إليها؛ هذ المرّة لكي تمنحه قبلةً على شفتيه، قبلةٌ مطيَّبةٌ بمأثورٍ حِكَميّ تنجمع فيه كلّ مناقب عالم الخيال: “قل من لا يصرف الأيّام على مسرح الأحلام كان عبد الأيّام” (ص 121-122). وهذه الصورة عن الخيال ثوريّة بعض الشيء؛ فالشائع عند معظم الناس أنّ الوقوف على مسرح الأحلام يحمل في طياته خطورة الانزلاق خلف ستائر كواليسه من غير أملٍ بالعودة إلى “العالم الواقعيّ”. ورغم أنّ جبران لا يتجاهل خطورة الخيال وهو السيف ذو الحدّين إلّا أنه لا يرى وسيلةً إلى الانعتاق من شباك العبودية لعالم المظاهر والانسياق خلف المطامع الزائلة إلّا الحلم والخيال، أو قل هو مصدر الحنين الذي يعبّر عنه في غير مكانٍ من كتاباته ، أو “العنصر الشفّاف” الذي كان يذكّر به محبوبته مي زيادة.
للخيال إذن عند جبران مكانةٌ عاليةٌ، وهذا ليس بمستغرَبٍ. أليس هو الشّاعر والمصوِّر والنحّات؟ فسُكنى هذا العالم حتميةٌ لمن يبتغي الانفلات من تفصيلات الحياة اليومية بجانبها المادّيّ المرهق والمصطنَع. ولعلّ هذا هو سبب ظهور كلّ هذه الوجوه العديدة للأنثى السرّيّة إمّا بعيداً عن المدينة وحالة الاجتماع البشريّ، أو في غفلةٍ منها أي في الليل قبل النوم، أو قبل الموت (!)؛ فالخيال وحده هو الوحي الذي أتى للأنبياء كإشعياء ويوحنا وهو الإلهام الذي قاد الشاعر دانتي (ص 121). ولعلّ جبران لا يرى فرقاً جوهرياً بين الحالة الأولى والثانية، لأنّ “أيدي الخيال [هي التي] أنزلت المعرفة من دائرة النور الأعلى.” (العواصف، ص 83).
ويبدو أنّ هذا النمط الرؤيوي عند جبران لا يعود إلى الظهور في أعماله اللاحقة رغم أنّها بقيت جميعها تقريباً في إطار الأدب الحِكَميّ والتصوّفيّ؛ ولعلّ جبران أحجم عن الاستمرار في سرد هذه السَّفرات الخيالية لسببٍ أو لآخر قد نجد تلميحاً إليه في رسالته إلى ميّ زيادة، المؤرّخة بتاريخ 3 تشرين الثاني 1920. ومن المفيد أيضاً أن نلتفت إلى حقيقة أنّ جبران دعا مجموعته “دمعة وابتسامة” حصرم كرمه، معتبراً أنّها لا ترقى من حيث الشكل إلى ما كتبه فيما بعد، وهو لم يكن راضياً أصلاً عن مبادرة نسيب عريضة لنشره (الشعلة الزرقاء، 80). يخاطب إذن جبران مي زيادة شارحاً لها بعض من لواعج نفسه فيما يتعلّق بالخيال وعالمه الرؤيوي:
“حياتي حياتان، حياةٌ أصرفها بالعمل والبحث ومخالطة الناس ومصارعة الناس واستقصاء السرّ الخفي في أعماق الناس، وحياةٌ أخرى أصرفها في مكانٍ قصيّ هادئٍ مهيبٍ مسحورٍ، لا يحدّه مكانٌ ولا زمانٌ. ففي العالم الغابر، كنتُ إن بلغتُ ذلك المكان البعيد، ألتفتُ فأرى روحاً ثانيةً جالسةً بجانب روحي، تبادلها ما هو أدقّ من الأفكار، وتشاركها بما هو أعمق من العواطف. فعزوتُ هذا الأمر في البداية إلى أوّليّاتٍ بسيطةٍ اعتياديةٍ، ولكن، لم يمر شهران إلا وتقرّر لديّ أنّ هناك سرّاً أبعد من الأوليات وأدقّ من الاعتياديات. والغريب أنني كنتُ أعود من هذه السفرات النفسية شاعراً بيدٍ شبيهةٍ بالضباب تلامس وجهي، وفي بعض الأحايين كنت أسمع صوتاُ دقيقاً ناعماً كلهاث الطفل متموّجاً في أذني.
يقول بعض الناس إنني من ’الخياليّين‘. وأنا لا أعرف ماذا يعنون بهذه الكلمة، ولكنني أعرف أنني لست بخياليّ إلى درجة الكذب على نفسي. ولو حاولت الكذب على نفسي، فنفسي لا تصدّقني. النفس يا ميّ، لا ترى إلا ما بها، ولا تؤمن إلا باختباراتها الخصوصية، وإذا ما اختبرت أمراً صار غصناً في شجرتها. وأنا قد اختبرتُ أمراً في العالم الغابر، قد اختبرته ولم أتخيّله. اختبرته مرّاتٍ عديدةٍ. اختبرته بنفسي وعقلي وحواسي، اختبرته، وكان بقصدي أن أكتمه كشيءٍ خصوصيّ، ولكنني لم أكتمه، بل أظهرته لصديقةٍ لي….
وماذا أقول عن رجل أوقفه الله بين امرأتين، امرأة تحوك من أحلامه اليقظة، وامرأة تحوك من يقظته الأحلام؟” (الشعلة الزرقاء، 86-87، 88)
فهل هذه المرأة الأخرى هي تلك الروح التي يلتقيها في تلك الرؤى عن “العالم الغابر” أم أنها تعبيرٌ عن الصديقة الأخرى التي يسرّ إليها بسفراته الخيالية الحقيقية. في كل الأحوال، هذ الأنثى السرّيّة التي تظهر في “دمعة وابتسامة”- ويبدو أنها تتوارى في أعماله اللاحقة- لم تكن تبارح مخيّلته وعوالمه الداخلية، فبقيت “تلامس وجهه” لكي تُبقيه على صلةٍ بعالم الحقائق والجواهر.
الهوامش:
[1] جميع أرقام الصفحات الواردة من دون مصدرها تدلّ على كتاب “دمعة وابتسامة”.
المصادر:
جبران خليل جبران، دمعة وابتسامة، دمشق: طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط4، 1997.
المراجع (غير مصنفة بحسب الترتيب الأبجدي وإنما بحسب كثافة الاستخدام):
جبران خليل جبران، العواصف، بيروت: مؤسسة نوفل، ط1، 1982.
ـــــــــــــــــــــــــــــ،
الشعلة الزرقاء: رسائل جبران خليل جبران إلى ميّ زيادة، تحقيق وتقديم سلمى الحفّار الكزبري وسهيل ب. بشروئي، بيروت: نوفل- الناشر هاشيت أنطوان، ط3، 2017.
الكتاب المقدس، ترجمة فاندايك الجديدة، القاهرة: دار الكتاب المقدس، الإصدار السابع، ط1، 2008.
بوئثيوس، عزاء الفلسفة، ترجمة عادل مصطفى، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2008.